الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا}.كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه، وضمير {رفعناه} للذي وضمير {ووصى بِهَا} للآيات، والباء سببية، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها؛ وقيل: الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات، فالرفع من قولهم: رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدًّا وإن روي عن مجاهد، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي.والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية.{ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} أي ركن إلى الدنيا ومال إليها، وبذلك فسره السدي.وابن جبير، وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسر به، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوة لملاذها وما يطلب منها.وقال الراغب: المعنى ركن إلى الأرض ظانًا أنه مخلد فيها، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة {واتبع} في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين: على أن المشيئة سبب لفعله المؤدى إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة؛ وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة ف حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه كما قال أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية عنه والكناية أبلغ من التصريح، وتنبيهًا على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك».والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى أخلد إلى التأويل، فجعل المشيئة مجازًا عن سببها وهو لزوم العمل بالآات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون {لَوْ شِئْنَا} باقيًا على حقيقته و{أَخْلَدَ إِلَى الأرض} مجازًا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد، ولم عتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذٍ، وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا} استدراك لقوله: {فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175] على أن الإخلاد هو الميل، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم، ثم قوله سبحانه وتعالى: {مَن يَهْدِ الله} [الأعراف: 178] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} [الأعراف: 179] يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب؛ وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئه والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض نعم هو أحسن من الرجل السوء، ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه:وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان نشد لنفسه: والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب، وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} أي شددت عليه وطردته {يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ} على حاله {يَلْهَثْ} أي أنه دائم اللهث على كل حال، واللهث ادلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثله كمثل إلخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله، والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثل وتفسير لما أبهم فيه ببيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] أثر قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} [آل عمران: 59] وقيل: إنهما ف محل النصب على الحالية من الكلب بناءً على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة: 6] كأنه قيل لاهثًا في الحالين، والجملة الشرطة كما قدمنا تقع حالًا مطلقًا، وقال صاحب الضوء: إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالًا جعلت خبرًا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو أن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة.نعم جوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذٍ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذٍ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد، وقيل وعليه كثير من المحققين أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر ف حال الكلب، وجاء وقد أشرنا إليه سابقًا أن بلعام لما دعا على موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي {ذلك} إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة.{مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآَيَاتِنَا} يريد كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هاديًا يهديهم وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرأوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول، ويدخل اليهود في ذلك دخولًا أوليًا {فاقصص القصص} القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب، واللام فيه للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيًا لتفكرهم أو رجاءًا لتفكرهم. اهـ. .قال ابن عاشور: قوله تعالى: {ولو شئنا لرَفَعْناه بها}.أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سببًا للهداية والتزكية، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم، فالمعنى: ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرَفعه الله بعلمه.والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها، لأن الصفات الحميدة تُخيل صاحبها مرتفعًا على من دونه، أي لو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلًا وزكاء وتميزًا بالفضل، فمعنى لرفعناه ليسرّنا له العمل بها الذي يشرُف به.وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها} بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض، أي ركن ومال إلى الأرض، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى، بحال من كان مرتفعًا عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل، فبذكر الأرض عُلمَ أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد.واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة، على ما يدعو إليه الحق والرشد، فالاتباع مستعار للاختيار والميل، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها.وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيهًا بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه، فالكلام في قوة أن يقال: ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شَقاء وعناد، كمثل الكلب إلخ.واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة، وتقدم قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} في سورة البقرة (17)، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حينَ كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصبًا وعناء، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديرًا فيه بأن يستريح من عنائه؛ لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللّهث، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله: {أو تَتْركه}.وليس لشيء من الحيوان حالة تصلح للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث، لأنه يلهث إذا أتْعب وإذا كان في دعة، فاللهث في أصل خلقته.وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه، سبب آت من غيره فمعنى {إن تحمل عليه} إن تُطارده وتُهاجمه.مشتق من الحَمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله، يقال حمل فلانٌ على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة.وقد أغفل المفسرون توضيحه، وأغفل الراغب في مفردات القرآن هذا المعنى لهذا الفعل.فهذا تشبيهُ تمثيل مُركب منتزعةٌ فيه الحالة المشبهة والحالةُ المشبه بها من متعدد، ولما ذُكر {تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} في شق الحالة المشبه بها، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة، وتتقابل أجزاءُ هذا التمثيل بأن يشبّه الضال بالكلب، ويشبه شقاؤُه واضطرابُ أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة، تشبيهَ المعقول بالمحسوس، ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس.وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة.فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه، كما درج عليه في الكشاف، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر {إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} كبير جدوى، بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها، لتكتسب الحالةُ المشبهة تشويها، وذلك تقصير في حق التمثيل.والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار، يألف من يعاشره ويحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم، ويحرس الأنعام التي يعاشرها، ويعدو على الذئاب، ويقبل التعليم، لأنه ذكي.ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر، ويلهث بدون ذلك، لأن في خلقته ضيقًا في مجاري النفس يرتاح له باللهث.وجملة: {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} في موضع الحال من الكلب والخطاب في {تَحْمل} وتترك لمخاطب غير معيّن، والمعنى إن يحمل عليه حامل، أو يتركه تارك.واللهث: سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس، وفعله بفتح الهاء وبكسرها، ومضارعه بفتحها لا غير، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام، لأنه من الأدواء، وليس بصوت.جملة مبيّنة لجملة: {واتْلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} الآيتين، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن، تشبيه بليغ، لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها.والإشارة بذلك إلى {الذي آتيناه آياتنا}، وهو صاحب القصة، هو مَثل المشركين، لأنهم شابهوه في أنهم أتوا القرآن فكذبوا به، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثَل في قوله: {كمثل الكلب} أي حالُ الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى: {أو تقولوا لو أنا أنْزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157] وهذا تأويل ما روي عن عبادة بن الصامت أن آية: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} إلى آخرها نزلت في قريش.وفُرع على ذلك الأمرُ بقوله: {فاقْصص القصصَ لعلهم يتفكرون} أي اقصص هذه القصة وغيرها، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن، فإن في القصص تفكرًا وموعظة، فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم، لأن للأمثال واستحضار النظائر شانًا عظيمًا في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس. اهـ.
|